يقول الإمام
الطحاوي رحمه الله في المتن: [ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله] وهذه قاعدة عظيمة، وهي مأخوذة من كلام
السلف الصالح في هذا الباب، وهم أخذوا هذا المعنى من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الكف عن الخوض في ذات الله سبحانه وتعالى، وترك المماراة في دينه، ولهذا قال المصنف رحمه الله: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الكف عن كلام
المتكلمين الباطل وذم علمهم]؛ لأن كلام
المتكلمين ليس إلا خوضاً ومماراة في دين الله، وقد نهينا عن ذلك.
يقول الإمام مالك رحمه الله: [[ أو كلما جاءنا رجل هو أجدل بحجته من الآخر، تركنا قول محمد صلى الله عليه وسلم، وتركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لقوله؟!]] ومعنى كلامه رحمه الله: لو أن المسألة بالجدل والمراء والمنازعة، لكان كلما جاءنا رجل أجدل من الآخر، تركنا ما أنزل الله تعالى، وما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لكلامه، ثم يأتي من هو أجدل منه، فنترك أيضاً كلام من قبله لكلامه، وهكذا.
إذاً: فالواجب علينا اتباع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك به؛ فإنه صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وأما علم الكلام فقد سبق البيان في ذمه، وما قاله السلف الصالح رحمهم الله فيه في أول هذا الشرح، وبما أن له تعلقاً بموضوع الجدل والنظر فنورد منه قوله رحمه الله: [بل البحث التام، والنظر القوي، والاجتهاد الكامل فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلم ويعتقد، ويعمل به ظاهراً وباطناً، فيكون قد تلي حق تلاوته، وألا يهمل منه شيء].
ثم يقول بعد ذلك: [وهذه كانت طريقة السابقين الأولين، وهي طريقة التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين ثم من بعدهم، ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة]، ثم ذكر رحمه الله بعد ذلك أقوال علماء المسلمين في الكلام وأهله.
قال: "فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لـبشر المريسي: "العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم" أي: من لا يطلب إلا علم الكلام فهو جاهل، ولهذا جاء عن بشر، والجهم، والنظام، والعلاف، وعن أمثالهم فتاوى غريبة مضحكة، وجهل لا يكاد يقال في أحكام الدين الأولية؛ لأنهم لم يتعلموا في الحقيقة شيئاً؛ فكل ما تعلموه وما أصلوه، وما قرروه وقعدوه إنما هو من علم الكلام؛ ولذلك لم ينفعهم شيئاً ولم ينفع الأمة من بعدهم.
ثم قال المصنف مورداً كلام آخر لـأبي يوسف : "وعنه أيضاً أنه قال: "من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب" وهذه حقيقة، وهي من الحكم المأخوذة بالتجارب والاستقراء: (من طلب العلم بالكلام تزندق)؛ لأنه اتخذ طريقاً لا يورث اليقين، بل يورث الشك، ومعلوم أن اليقين لا يأتي إلا من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلم الكيمياء هو العلم الذي كان يظن الأولون أن في استطاعتهم عن طريقة تحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة -كتحويل الرصاص إلى ذهب- فلا يقع لهم ذلك ومن ثم يفلسون، ولو أنهم اشتغلوا بأي علم آخر لربما فتح الله عليهم ونفعهم به.
قوله: [ومن طلب غريب الحديث كذب]. بعض الناس وبعض المتفقهين في الحديث يأتي بغرائب الأسانيد أو غرائب الأحاديث ؛ فهذا يقع في الكذب؛ لأن غرضه الإغراب، وليس هدفه نقل الحقيقة، وبعض الناس يقول: إني أدركت فلاناً، أو أدركت من روى عن فلان من المحدثين المشهورين، وهو لم يدركه، لكن يلجأ إلى ذلك طلباً للشهرة والسمعة والإغراب، وهذه المقولة نقلت عن الشعبي وعن أبي يوسف، وهي مشهورة عن أبي يوسف رحمه الله.
وبعد أن ذكر -المصنف- كلام الأئمة الحنفية عقب بذكر كلام الشافعي رحمه الله؛ لأن أكثر من ضل في هذا العلم هم من أتباع هذين الإمامين؛ لأن الماتريدية ينتسبون إلى الإمام أبي حنيفة، والأشعرية ينتسبون إلى الإمام الشافعي، وإن كانوا قد انتشروا أيضاً في المالكية؛ لكنهم في الأصل شافعية؛ فأتى بعد ذلك بكلام الشافعي رحمه الله وهو قوله: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال" والجريد هي العصي الغليظة المعروفة، والنعال هي: الأحذية. "ويطاف بهم في العشائر والقبائل" وهذا من أعظم التعزير والتشهير "ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" هم إنما يخوضون في ذلك بآرائهم وظنونهم.. إلى آخر ما ذكره رحمه الله.